فصل: الفصل الثالث: في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية:

وأما قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا، وسنوه كالفراسخ، وشهوره كالأميال، وأنفاسه كالخطوات، ومقصده الوصول إلى عالم أخراه؛ لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة، إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {مالك يَوْمِ الدين}.
إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر، وهي قسمان: بعضها عقلية محضة، وبعضها سمعية: أما العقلية المحضة فكقولنا: هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه، ثم يمكن إعادته مرة أخرى، وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته، وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس، وكيفية أحوالها وصفاتها، وكيفية بقائها بعد البدن، وكيفية سعادتها وشقاوتها، وبيان قدرة الله عزّ وجلّ على إعادتها، وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية.
وأما السمعيات فهي على ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، وتلك العلامات منها صغيرة، ومنها كبيرة وهي العلامات العشرة التي سنذكرها ونذكر أحوالها.
وثانيها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، وهي كيفية النفخ في الصور، وموت الخلائق، وتخريب السموات والكواكب، وموت الروحانيين والجسمانيين.
وثالثها: الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف، وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق، وكيفية الأحوال التي يشاهدونها، وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام، وكيفية الحساب، وكيفية وزن الأعمال، وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وكيفية صفة أهل الجنة وصفه أهل النار، ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار بعد وصولهم إليها، وشرح الكلمات التي يذكرونها والأعمال التي يباشرونها، ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف من المسائل، وهي بأسرها داخلة تحت قوله: {مالك يَوْمِ الدين}.
وأما قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلهًا واحدًا.
قادرًا على مقدورات لا نهاية لها، عالمًا بمعلومات لا نهاية لها، غنيًا عن كل الحاجات، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء، ونهاهم عن بعضها، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لابد من تفصيل أقسام تلك التكاليف، وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي، وجميع ما صنف في الدين من كتب الفقه يدخل فيه تكاليف الله، ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين، وأيضًا يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات، وأيضًا فكتب الفقه مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل، وهي التي تشتمل عليها كتب الأخلاق، وكتب السياسات، بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة، وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} علم حينئذٍ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها.
أما قوله جل جلاله: {اهدنا الصراط المستقيم} فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية، ولتحصيل الهداية طريقان: أحدهما: طلب المعرفة بالدليل والحجة، والثاني: بتصفية الباطن والرياضة، أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية لأنه لا ذرة من ذرات العالم الأعلى والأسفل إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته، وبعزة عزته، وبجلال صمديته، كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وتقريره: أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية، ومختلفة في الصفات، وهي الألوان والأمكنة والأحوال، ويستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية، وإلا لزم حصول الاستواء، فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص وتدبير مدبر، وذلك المخصص إن كان جسمًا عاد الكلام فيه، وإن لم يكن جسمًا فهو المطلوب، ثم ذلك الموجود إن لم يكن حيًا عالمًا قادرًا، بل كان تأثيره بالفيض والطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء، وإن كان حيًا عالمًا قادرًا فهو المطلوب، إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات والأرض شاهد صادق، ومخبر ناطق، بوجود الإله القادر الحكيم العليم، وكان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول: إن لله تعالى في كل جوهر فرد أنواعًا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة، وذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل، ويمكن أيضًا اتصافه بصفات غير على البدل، وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم، فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه.
وأما تحصيل الهداية بطريق الرياضة والتصفية فذلك بحر لا ساحل له، ولكل واحد من السائرين إلى الله تعالى منهج خاص، ومشرب معين، كما قال: {وَلِكُلّ وِجْهَة هُوَ مُوَلّيهَا} [البقرة: 148] ولا وقوف للعقول على تلك الأسرار، ولا خبر عند الأفهام من مبادئ ميادين تلك الأنوار، والعارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة، وأسرارًا دقيقة، فلما ترقى إليها أفهام الأكثرين.

.الفصل الثاني في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة:

ولنتكلم في قولنا: {أَعُوذُ بالله} فنقول: أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل، وأما الباء في قوله بالله فهي باء الإلصاق، وهي نوع من أنواع حروف الجر، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف.
وأما قولنا الله فهو اسم معين: إما من أسماء الأعلام، أو من الأسماء المشتقة، على اختلاف القولين فيه، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم، وقد ثبت في العلوم العقلية، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس، لأن الجنس جزء من ماهية النوع، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة، فقولنا: {أَعُوذُ بالله} لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولًا، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها، ثم بعد الفراغ منه لابد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم، وإلى الاسم المشتق، وإلى اسم الجنس، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة: {الله} اسم علم، أو اسم مشتق، وبتقدير أن يكون مشتقًا فهو مشتق من ماذا؟ ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها، وأيضًا يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق، ثم يذكر بعده أقسام الفعل، ومن جملتها الفعل المضارع، ويذكر حده وخواصه وأقسامه، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا: أعوذ على التخصيص، وأيضًا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله: {أَعُوذُ بالله} ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدًا.
ثم نقول: والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول: الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة، فيجب البحث أيضًا عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها، وأيضًا فهاهنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة، وهي: الكلام، والقول، واللفظ، واللغة، والعبارة، فيجب البحث عن كل واحد منها، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة، أو من الألفاظ المتباينة، وبتقدير أن تكون ألفاظًا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل.
ثم نقول: والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول: لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف، فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت، وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس، وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفسًا على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه، وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة، ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين، وأما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له؟ وأيضًا لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت، وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس، ويجب أيضًا البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح. ثم نقول: والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع، وأما الألوان والأضواء فهي وأما قوله جل جلاله: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فما أجل هذه المقامات، وأعظم مراتب هذه الدرجات! ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادئ هذه الحالات، فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السوره مشتملة على مباحث لا نهاية لها، وأسرار لاغاية لها، وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة، كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين.
كيفيات محسوسة بحاسة البصر، والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق، وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة، فهل يصح أن يقال: هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية، وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا؟
ثم نقول: والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور، فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا؟
ثم نقول: والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف، ومقولة الكم، ومقولة النسبة عرض، فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه، وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه.
ثم نقول: والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود، فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم، وهي كيفية وقوع الموجود على الواجب والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب.
ثم نقول: والمرتبة العاشرة أن نقول: لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود؟ ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم، وأيضًا فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم، ولا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلًا لغيره، فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلًا للمعلوم، وجب أن يكون غير المعلوم معلومًا، فحينئذٍ يكون المقابل للمعلوم معلومًا، وذلك محال.
واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها، ولا يحيط عقله بأقل القليل منها، فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة.

.الفصل الثالث: في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة:

اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها، ثم إذا حكينا فيها مثلًا شبهات خمسة فكل واحد منها أيضًا مسألة مستقلة بنفسها، ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة الثلاثة أيضًا مسائل ثلاثة، وإذا قلنا مثلًا: الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجهًا، وفصلنا تلك الوجوه، فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة، وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير، فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة، وإذا وقفت على هذه الدقيقة فنقول: إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور، والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم، والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن، والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض، والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة، والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف عظم الخطب، واتسع الباب، ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله: {أَعُوذُ بالله} ونرجو من فضل الله العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم.